Loading

You are here

علميا: ما هي الحكمة؟

د.شريف عرفة

 
لو طلبت منك -عزيزي القارئ- أن تتخيل إنسانا حكيما.. فكيف ستتخيله؟
فكر معي قليلا في هذا الأمر..
 
ربما تتخيل رجلا كبير السن، له لحية بيضاء و يعيش منعزلا عن الناس في مكان ما.. متجهم أو جاد الملامح، و في الغالب الأعم، هو رجل و ليس امرأة!
فهل هذا ما تخيلته فعلا؟
 
 
تبدو هذه الصورة النمطية مترسخة في وجداننا الجمعي منذ زمن بعيد.. فقديما، كانت الحكمة مرتبطة بكثرة المعلومات المكتسبة من تجارب الحياة الطويلة، و احترام السلطة الأبوية و سواد قيم المجتمع الذكوري. في هذا الوقت كان يمكن تعريف الحكمة ببساطة بأنها: "الإصابة في القول و العمل!" و هو تعريف سهل ينتمي لعصر بسيط كانت فيه الإجابات حاسمة و الصواب واضح محدد المعالم..
أما اليوم، فقد تشابكت التفاصيل و تشعبت العلوم و المناهج و الآراء و المعطيات و زادت تعقيدات الحياة بشكل لم يعرفه القدماء، لدرجة جعلت هناك أكثر من صواب يتفاوتون في مدى صلاحيتهم في الموقف الذي نتحدث عنه. فما تراه أنت "صوابا" قد يراه من ينتمي لمجتمع آخر أنه حماقة.. يبدو أنه لم يكن سائدا عند القدماء فهم هذه النسبية في فهم مجريات الأمور.. فكانت الحكمة هي معرفة الأبيض من الأسود و كفى!

حسنا.. في عصرنا الحديث، مع تطور العقل البشري و فهمنا للنسبية المتغلغلة في فلسفات العلوم الأساسية ذاتها.. كيف يكون الإنسان حكيما؟
 و ما هي الحكمة أصلا؟


 
[[{"fid":"5041","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

علم الحكمة

شغلت الحكمة بال علماء النفس مؤخرا، و راحت مراكز الأبحاث و المعامل النفسية تجري دراساتها لفهم طبيعتها و محدداتها و صفات من يتحلون بها. و ظهرت بالفعل عدة تعريفات و زوايا تناول لهذه الظاهرة المعقدة.
 

فمنهم من رأى أن الحكمة مرتبطة بالذكاء.. و منهم من رأى أنها مرتبطة بالمعرفة و خبرات الحياة.. و منهم من قسمها لحكمة كبرى (متعلقة بالقضايا الفكرية و العلمية المتعلقة بالبشر ككل) و حكمة صغرى (متعلقة بتفاصيل الحياة اليومية).. إلى أن جاء مشروع علمي كبير سمي "مشروع برلين للحكمة" جمع نخبة من العلماء لدراسة طبيعة الحكمة و سمات الحكماء..
 
قالوا أن الحكمة لا علاقة لها بالذكاء، أي أن الأذكياء ليسوا حكماء بالضرورة. فالحكمة مرتبطة بصفات عقلية أخرى يمكن تبسيطها كالتالي:  المعرفة- فهم السياق- المنظور- تحمل الغموض!
 فتعالوا نتعرف علي كل نقطة معا.

[[{"fid":"5043","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

١- المعرفة:

المعلومات هي المادة الخام للفهم، فلابد للحكيم أن تكون عنده معلومات و معطيات متجددة تمكنه من فهم الأمور و كيفية عمل الأشياء، قبل أن يقدم على إصدار أحكام أو استنتاجات عامة. 
فالشخص الحكيم لا يفترض أن يكون جاهلا في المجال الذي يمارس فيه حكمته لو صح التعبير. بل هو شغوف بالتعرف على المعلومات الجديدة و التدقيق فيها و ربطها بالخبرات و المعارف السابقة لفهم الأمور و تكوين صورة متكاملة.

مثال:

كثير من الناس يستقبلون معلومات دون تدقيق في مصادرها، او لا يهتمون بمعرفة المعلومات الجديدة، فبالتالي قد تكون أحكامهم خاطئة رغم قدرتهم على التفكير المنطقي!
 

[[{"fid":"5044","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]
٢-  السياق:

 المعرفة ليست كافية ليكون الشخص حكيما. فإدراك نسبية المعرفة و كيفية تطبيقها في سياقها الصحيح مهم أيضا. فالشيء الجيد قد يصبح سيئا لو طبقناه في سياق مختلف، و الحل المعتاد قد يعقد المشكلة لو حدثت في سياق آخر، و ما يناسب شخصا قد لا يناسب غيره في بيئة مختلفة. أي أن الحكمة مرتبطة بتمييز المتغيرات وفهم الظروف و الملابسات، قبل تطبيق شيء ما بحجة أنه كان صالحا في سياق آخر!
مثال: النصائح الاجتماعية للآخرين (مثل مواصفات الزوجة المثالية أو أفضل مجال للعمل..إلخ) غير صالحة لكل زمان و مكان، فلا يجوز تعميمها لمجرد أنها جاءت بنتيجة جيدة معك أنت، لأن الناس لهم ظروف و أولويات و تفضيلات و ثقافات قد تكون مختلفة عنك. فهذه النصائح صحيحة في سياق محدد، و قد لا تكون كذلك في سياق آخر.
 

[[{"fid":"5046","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

٣-  المنظور:

إدراك أن الحقيقة يمكن فهمها من أكثر من زاوية، لا زاوية واحدة فقط. فهذا الأمر يعطي اتساعا للرؤية و قدرة على فهم الأمور من منظور أكثر رقيا من الشخص العادي الحبيس وجهة نظره المتوارثة غالبا. الحكيم شغوف بمعرفة الآراء المتنوعة و أسبابها و فهم منطقها و مبرراتها..  فيتعمق -مثلا- في فهم الآراء المختلفة لكافة أطراف النزاع ، قبل الحكم عليه.
 
مثال: قصة العميان و الفيل: كل كفيف يلمس جزء من الفيل و يعتقد أنه يصفه بدقة.. بينما الكفيف الحكيم يدرك أن الحقيقة أكثر من مجموع وجهات نظرهم مجتمعة!

 

[[{"fid":"5047","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

٤- تحمل الغموض:

كثيرا ما يلجأ الإنسان لأسهل التفسيرات المتاحة، لمجرد أنه لا يستطيع أن يتحمل الغموض الناتج من عدم وجود تفسير أصلا! إلا أن الشخص الحكيم يستطيع تحمل هذا الغموض، و عدم التعصب لتفسير ما لمجرد أنه التفسير الوحيد أو الشائع، فالمعلومة التي أنت متيقن منها تماما، قد تكون خطأ! فما يعتقد الشخص الحكيم أنه صواب، هو -بالنسبة له- أفضل التفسيرات الممكنة لحين اكتشاف تفسير أفضل.
 
مثال: القدرة على إعادة تقييم الأفكار الشائعة طبقا للمعارف الجديدة. كتقبل أن الشمس لا تدور حول الأرض رغم معارضة رجال الدين للموضوع عند اكتشافه.
 
 

كيف يعيش الحكيم حياته؟

 
هذه هي الصفات التي وجد علماء النفس أنها تميز الشخص الحكيم عن غيره.. و قالوا أنها ليست مقتصرة على كبار السن بالضرورة، فالشخص قد يصل لسن كبير و تبدأ قدراته المعرفية في التدهور.. بينما قد يكون المرء  شابا كثير التجارب و القراءة و الثقافة لدرجة تجعله أكثر حكمة من كبار السن.

يمكن وصف الحكمة بأنها عملية مستمرة في حياتنا، تزيد قليلا أو تنقص قليلا، لكنها ليست صفة ثابتة كلون العينين مثلا.. أي أنها مورد نفسي مهم على الإنسان أن يبذل مجهودا للحفاظ عليه و تنميته و صقله باستمرار كي لا يندثر.

في بداية هذا الموضوع تخيلنا الشخص الحكيم عابسا متجهما لسبب ما.. فهل الحزن قرين الحكمة حقا؟ أم أن الحكمة تساعد صاحبها أن يجد الطريق إلى السعادة؟

كيف يعيش الحكيم حياته في عالمنا اليوم، و ما هي أولوياته؟
هذا ما سنواصل الحديث عنه في المقال القادم..

 و إلى أن نلتقي،  قل لي -عزيزي القارئ- من هو الحكيم الذي جال بخاطرك و أنت تقرأ هذا الموضوع؟

د.شريف عرفة، الاتحاد

 

 

 
 
 
 
 

 

تعليقات القراء