Loading

You are here

السعادة.. هل تُشتَرى ؟

 

د.شريف عرفة

في الأعمال الدرامية، كثيرا ما نرى شخصية ذلك الرجل الفقير السعيد، الذي ينام قرير العين رائق البال مستريح الضمير، بينما الشخص الغني تعيس يعاني من المشاكل والأرق والتوتر.. و كثيرا ما نسمع مقولات مثل أن "النقود لا تشتري السعادة" و أن "السعادة ليست في المال".. 

لكن حين نتأمل تقرير السعادة العالمي 2018 الصادر عن منظمة الأمم المتحدة، يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن الدول الأكثر سعادة، دول غنية (أول دولة هي فنلندا وأول دولة عربية هي الإمارات العربية المتحدة).. بينما الدول الأقل سعادة، دول تعاني من اضطرابات وصعوبات اقتصادية (أقل دولة هي بوروندي و أقل دولة عربية هي اليمن)..

فهل نفي علاقة المال بالسعادة أمر منطقي حقا؟
أضحى هذا التساؤل مجالا خصبا للبحث العلمي، و قرر علماء و باحثون سبر أغواره في عدد من الدراسات الحديثة، ليتعرفوا عن كثب على حقيقة تلك العلاقة المثيرة للجدل بين المال و مستوى السعادة. وإليك -عزيزي القارئ- بعضا من نتائج هذه الدراسات التي تتحدى كثيرا من المعتقدات الشائعة.. وكيف يمكن أن نستفيد منها في حياتنا العملية..
 
ما سعر السعادة؟
من أشهر الدراسات حول علاقة المال بالسعادة، دراسة دانييل كانيمان، أول عالم نفس يحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد. في هذه الدراسة، قاموا باستطلاع آراء نحو ألف شخص من خمسين ولاية أميركية، ليحاولوا فهم العلاقة بين درجة السعادة ومستوى الدخل.. فماذا وجدوا؟
على عكس الاعتقاد الشائع، وجدوا إن زيادة الدخل له علاقة طردية بزيادة الرضا عن الحياة. أي أن الرضا عن الحياة يزيد مع ارتفاع مستوى الدخل بالفعل. لكن الدراسة وجدت أيضا أن هذه العلاقة تتوقف عند مستوى دخل معين ( 75 ألف دولار في السنة) لا تزيد السعادة بزيادة الدخل!
ما معني هذا؟ ولماذا هذا المبلغ بالتحديد؟

يقول الباحثون إن المال قد يساعد في زيادة الرضا عن الحياة بالفعل، لأنه يجنب الإنسان المعاناة و المشاكل و الضغوط الناتجة عن قلة المال. تخيل معي شخصا يعاني بسبب عدم قدرته على تحمل احتياجاته الشخصية، أو مصاريف دراسة ابنه، أو علاج والدته، أو توفير الحد الأدنى من الترفيه له ولأسرته.. حين يكون المرء فقيرا، كلما زاد الدخل استطاع تلبية جزء أكبر من الاحتياجات الضرورية، فيزيد الرضا عن الحياة. المبلغ الذي حددته الدراسة يلبي معظم الاحتياجات الأساسية لمن يعيش في الولايات المتحدة وقت الدراسة. لكن حين يتم إشباع الأساسيات، يتطلع الإنسان لأمور أخرى. فلا يزيد الرضا مع زيادة الدخل بالضرورة.. لأن السعادة قد ترتبط وقتها بأمور أخرى، كالنجاح المهني و التقدير الذاتي و العلاقات...إلخ

تتماشى هذه الدراسة مع دراسة أخرى أحدث، نشرت في (بانل ستادي أوف إيكونوميك ستاديز) توصلت إلى أن زيادة ثروة العائلة ككل تقلل من المشاعر السلبية لأفرادها، لكن عند حد معين أيضا. و هو ما يؤكد فكرة الحد الأقصى لعلاقة المال بالسعادة..
 
باختصار: المال مهم نسبيا للسعادة.. لأنه يخفف المعاناة و المشاكل و الضغوط الناتجة عن قلته.
لكن زيادته أكثر من ذلك لا تعني زيادة السعادة بالضرورة

كيف نشتري السعادة؟
أعطي العلماء مبلغا من المال لكل مشارك في التجربة.. و طلبوا منهم أن يخرجوا و ينفقوه كما يحلو لهم. فذهب كل مشارك و هو يفكر في ما يمكن عمله بهذا المبلغ.. منهم من اشترى ساعة جديدة، أو دعى حبيبته إلى مطعم أنيق، أو ذهب للسنيما، أو اشتري هدية لابنه، و ما إلى ذلك من أفكار مختلفة.. ثم عادوا بعد ذلك لاستكمال التجربة و تقييم مدى سعادة كل شخص بعد ما فعله بهذا المال.

في هذه الدراسة (التي نشرت في دورية ساينس) وجدوا أن هؤلاء الذين أنفقوا أموالهم على خبرات حياتية أو على الآخرين، كانوا أكثر سعادة من الذين أنفقوه في سلع مادية. و هو ما أكدته دراسات أخرى عديدة أيضا. فالخبرة الحياتية الممتعة التي تضم أناسا آخرين في حياتك، تظل عالقة في الذاكرة لفترات أطول، و تظل مصدرا للسعادة كلما تذكرت هذا الموقف.. فحين تتذكر تلك النزهة الممتعة مع الأسرة أو الذهاب لمكان جديد مع الأصدقاء، قد تبتسم..

فاستدعاء الذكريات السعيدة يثير المشاعر المصاحبة لها أيضا.. و تصبح هذه الخبرة الحياتية ممتعة في وقتها، و ممتعة أيضا عندما تتذكرها مستقبَلا في أي وقت!  أما موقف شراء سلعة غالية، فلن يظل عالقا في ذهنك و لن يكون مصدر سعادة في المستقبل.. بل إنك ستعتاد هذه السلعة و لن تعود مصدرا لسعادتك أكثر من عدة أيام. لذلك يقول العلماء في هذه الدراسة، أن "علاقة المال بالسعادة لا تقتصر على حجم المبلغ، بل أيضا بكيفية إنفاقه"..

 هناك دراسات أخرى تعتبر "التنوع" من الأمور التي ينبغي مراعاتها عند إنفاق المال.. فالذهاب لنفس الأماكن وممارسة نفس الخبرات بحذافيرها، سيجعل هذه الخبرات تفقد تأثيرها. لن تعود مثيرة للمتعة بل للضجر. فما العمل؟ الحل هو أن تتمتع بحس المغامرة و الرغبة في التجديد باستمرار.. اذهب لمكان لم تذهب إليه من قبل، اطلب طعاما لم تذقه من قبل، ادخل فيلما من ثقافة مختلفة لم تعتدها، سافر لبلد لم يخطر ببالك أن تزره.. هذا الشعور بالترقب مما قد تؤول إليه الأمور يضفي علي الحياة نوعا من المتعة و الحيوية، وهو مهم -حسب دراسات- لزيادة و إطالة أمد السعادة و الاستمتاع بالحياة. لذلك يمكن إنفاق المال في أنشطة وخبرات تزيد من هذه المشاعر، لا في تكرار ما اعتدت عليه وخبرته و مللته.

لكن دعنا نكن واقعيين.. هناك مشكلة شائعة قد تحد من تطبيق ما نتحدث عنه. وهي: أين أجد الوقت؟ حياتي مشغولة و مليئة بالمسؤوليات والمهام ولا أجد وقتا لقضاء وقت ممتع.. فما العمل في هذه الحالة؟

من الأمور التي يمكن شراؤها لزيادة السعادة أيضا، شراء وقت الفراغ! قد يبدو هذا الكلام غريبا، لكن لو فكرت في الأمر ستجد أننا نفعل هذا طوال الوقت.. حين تدفع المال لشخص كي يقوم بمهام يمكنك القيام بها، لكنك تنفق المال توفيرا للوقت.. مثلا: تنظيف المنزل.. التسوق الإلكتروني.. التعامل مع سمسار أو وكالة سفريات.. تفويض شخص لإنهاء مشاويرك البعيدة….إلخ. وجد العلماء في هذه الدراسة التي نشرت في دورية (برسونال آند سوشيال رليشنشبس)  إن "تفضيل الوقت على المال" يزيد سعادة الناس المشغولين في حياتهم، لأنه يتيح لهم وقت فراغ أكبر يقضونه مع أحبائهم، و في ممارسة الأنشطة السابق ذكرها والتي عرفنا أنها تزيد السعادة!

 باختصار: إنفاق المال في شراء الوقت.. و في الخبرات الحياتية، وعلى الآخرين، و إنفاقه في أشياء متنوعة تثير عنصر المفاجأة، يزيد من شعور الإنسان السعادة لفترات أطول.

من أين لك هذا؟
هل مصدر المال يحدد مستوى السعادة؟
لإجابة هذا السؤال المثير أجريت دراسة فريدة من نوعها، استطلعت هذه الدراسة آراء آكثر من 4000 مليونير حول العالم.. وجاءت نتيجتها بتفاصيل مثيرة..
وجد الباحثون في هذه الدراسة التي نشرت مؤخرا في دورية (بيرسوناليتي أند سوشيال سايكولوجي بوليتان) إن سعادة المليونيرات لا تزيد بالضرورة مع زيادة الثروة، لكنها تزيد -فقط- عند الأشخاص الذين يكسبون هذا المال بمجهودهم و عملهم.. لا الذين حصلوا عليه دون جهد، بالميراث أو الزواج من شريك حياة غني مثلا!
لماذا؟ فكر معي في الأمر.. عند درجة معينة من الثراء، لن تعني زيادة الرقم الموجود في الحساب البنكي شيئا.. فالإنسان في النهاية ينام في سرير واحد، يتواجد في مكان واحد، ولن يستطيع أكل ألف وجبة في اليوم، أو ركوب ألف سيارة في نفس الوقت.. هناك حدود لمقدرة الإنسان على الاستمتاع، و صاحب 11 مليون دولار ليس أسعد من صاحب 10 ملايين دولار بالضرورة لمجرد زيادة هذا الرقم.. و لكن، لو كسب المليونير هذا المبلغ الإضافي بمجهوده و كفاءته،  قد يزيد تقديره لنفسه و إحساسه بجدارته فيصبح سعيدا أكثر.. أي أن السبب ليس زيادة المال في حد ذاته، بل في دلالة هذا المبلغ عند الشخص الذي كسبه، مبرهنا لنفسه على كفاءته الذاتية! في هذه الحالة ليست زيادة المال هي سبب السعادة، بل دلالة هذه الزيادة عند المليونير المجتهد!
 
باختصار: مصدر المال يؤثر في مستوى السعادة!

والآن، و بعد انتهائك من قراءة الموضوع، قل لي عزيزي القارئ..

ما الذي ستفعله اليوم لزيادة سعادتك؟
 

نشر في جريدة الاتحاد

تعليقات القراء