Loading

You are here

كيف يعيش الحكيم؟

 
د.شريف عرفة
 
في المقال السابق، تحدثنا عن الصفات الذهنية التي تميز الشخص الحكيم.. و قلنا أنها تتلخص في المعرفة و المنظور و تحمل الغموض.. و هي صفات موجودة عندنا جميعا بمقادير مختلفة، إلا أن البعض يستطيع صقلها و تنميتها و الحفاظ عليها أكثر من غيره،  فالأمر لا يتعلق هنا بكون الإنسان إما أحمق أو حكيم، بل هناك درجات كثيرة في المنتصف تجعل أحدنا أكثر حكمة من غيره.
 
 قد تتجلى هذه الصفات عند شخص في مجال ما في مرحلة محددة في حياته فنعتبره إنسانا حكيما، لكن هذه الصفات قد تخبو أو تقل مع الزمن فهي ليست مرتبطة بالجينات كلون العينين و طول القامة، بل هي صفات إدراكية يمكن تنميتها و الحفاظ عليها بالخبرة و الممارسة.
 
في مقال اليوم، نواصل الحديث عن هذا الموضوع.. و عن اسلوب حياة من يتسمون بصفات الحكمة في عالم الواقع.
 
فهل الحكيم سعيد أم تعيس؟
هل حياته خالية من المشاكل؟
 
 في دراسة علمية، قرر العلماء معرفة طريقة حياة الحكماء، و الزشياء المشتركة بينهم في حياتهم العادية. فكان ما وجدوه مثيرا للاهتمام.

[[{"fid":"5061","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

 
أولا: السعادة
حين ترسم في خيالك صورة لشخص حكيم.. هل تتخيله ضاحكا مقهقا؟ أم متجهما شارد الذهن؟
 
قد يفترض البعض أن الحكمة قرينة الحزن و الضيق، لأن الحكيم مشغول بقضايا فكرية لا تجعل مزاجه رائقا ..لكن قد يرى البعض أن الحكيم سعيد لأنه عرف كيف يعيش حياته كما ينبغي.. فما الذي وجده العلماء حقا؟
 
 
يقول العلماء أن للسعادة نوعين أساسيين..
 
 
١- سعادة مرتبطة بالفرحة: أي أن صاحبها يشعر بمشاعر إيجابية كثيرة في حياته، فيضحك و يستمتع و يفرح بشكل أكبر من غيره.. و هي الصورة السنيمائية النمطية للسعادة.
٢- سعادة مرتبطة بالمعنى و القيمة: أي أن صاحبها يشعر بوجود معنى و هدف في حياته، يجعله يرى نفسه شخصا جيدا و خيرا، و أنه يسير بحياته في اتجاه صحيح.
 
 
وجدوا أن سعادة الشخص الحكيم مرتبطة بالنوع الثاني. أي أنه لا يشعر بمشاعر ايجابية  كثيرة تتعلق باستقبال المزيد من المتع (كالتسلية و الاستمتاع..) لكنهو اكتشفوا أنه غالبا ما يشعر بمشاعر مرتبطة بالاندماج في نشاط ذو معنى، كالانبهار و الاهتمام و الإلهام و الخشوع.. أي بممارسة أشياء نعتبرها مرتبطة بالسمو الذاتي.. كممارسة الفن و الثقافة و البحث و التأمل.. و هو ما يتفق مع رأي ابن سينا -مثلا- أن السعادة في المعرفة و البحث عن الحقيقة.
 الحياة الجيدة بالنسبة للحكيم ليست الحياة المريحة، بل الحياة الخيرة ذات المعنى و الهدف.. إلا أنها ليست بالضرورة حياة جافة خالية تماما من الأنشطة الممتعة، فهذا غير صحي، لكنه لا يولي هذه الأشياء نفس الأهمية التي يوليها لما يراه أكثر رقيا.
و هو ما يعني باختصار، أن الحكمة ليست قرينة السعادة بمعناها التقليدي فعلا!

[[{"fid":"5062","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

 
ثانيا: الاهتمامات
 
 
حين يصل الإنسان لمرحلة عالية من التطور الذهني تتغير نظرته للأمور.. فحين تتسع الرؤية و تصبح أكثر عمقا، لا يرى الإنسان أن هناك وضعا مثاليا ينبغي الجمود عنده، بل يرى الأمور متغيرة باستمرار و يعي أن التجديد و التطوير و التحسين ضرورات مستمرة ما دامت الحياة. حتى عندما يتعلق الأمر بنظرته الشخصية لنفسه، لا يرى نفسه ثابتا، بل متغيرا متجددا ينبغي المواظبة على تطوير مهاراته و قناعاته طوال الوقت.
 
 لا ينشد هذا الشخص تطوير حياته فقط، بل تطوير الحياة ذاتها.. أي تحسين أحوال مجتمعه أو عالمه.. كل حسب موقعه و طبيعة حياته.. فمثلا، هناك من يسعى لتحسين أحوال الأصدقاء و حل مشاكلهم أو لتطوير بلده، أو المشاركة في حماية البيئة، أو الرفق بالحيوان.. المهم أن هذا الشخص يرى أن له دورا عليه أن يلعبه لتحسين أحوال الآخرين، لا تحسين أحواله فقط.

[[{"fid":"5063","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

 
ثالثا: الصراعات
 
 
في عالم اليوم، تحيط بنا الصراعات من كل حدب و صوب.. سياسية و اجتماعية و مهنية.. بل حتى في عالم الأدب، بدون صراع لا توجد دراما!
 
 يبدو أن الصراع بتجلياته المختلفة جزء أساسي في الحالة الإنسانية لا يمكن تجنبه أو القضاء عليه بالكامل.. فما هو الأسلوب الذي يفضله الشخص الحكيم للتعامل مع الصراعات التي يواجهها في حياته اليومية؟ 
 
عموما، هناك أربعة أساليب أساسية يمكن من خلالها التعامل مع الخلافات و الصراعات، و هي:
  الهيمنة على الطرف الآخر- الخضوع للطرف الآخر- التعاون مع الطرف الآخر-
تجاهل الخلاف أصلا و المضي في الحياة.

 

 
و جد العلماء أن الحكيم غالبا ما يفضل الطريقة الثالثة، التعاون مع الطرف الآخر.. أي أنه ينشد التفاهم للوصول لتسوية ملائمة للخلاف حين يحدث.. لا أن يسعي للهيمنة و التسلط للحصول على ما يريد، و لا يفضل الخضوع و الاستسلام لما يمليه الطرف الآخر، كما لا يخشى الخوض في موضع الخلاف تجنبا للمشاكل.. بل يفضل مواجهة الخلاف و النقاش حوله للوصول لتسوية ما بشكل تفاوضي لا صدامي.
 
يرجع هذا السلوك للصفات العقلية المتطورة التي يتمتع بها الشخص الحكيم، و التي تجعله مدركا و مستوعبا لوجهة نظر الطرف الآخر، و اهتمامه بتحسين أحوال الآخرين بدلا من الانكفاء الأناني على مصلحته الذاتية فقط، و من ثم يستطيع الوصول لمواءمات تتفق مع رؤيته الأكثر شمولا لموضوع الخلاف.
 
لاحظ أن العلماء يفصلون بين الحكمة و التفكير الإبداعي و الذكاء. فالحكيم هنا يفضل التعامل بهذه الطريقة لا لأنه قادر بالضرورة على إيجاد حلول خارج الصندوق، بل لأنه يتمتع بالصفات العقلية التي تحدثنا عنها في المقال السابق، و التي تجعله أكثر إدراكا لنسبية الأمور و طبيعة الحالة الإنسانية.
 
التعاون مع الطرف الآخر للوصول لحل، طريقة قد لا تصلح لحل كل الخلافات بطبيعة الحال.. إلا أن الشخص الحكيم يوليها أولوية قصوي لاتساقها مع عقليته المتطورة و قيمه الإنسانية.
 
 
 هل الحكمة مرتبطة بالسن؟
 
 
[[{"fid":"5064","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]
 

بعد أن تعرفنا على سمات الحكمة و تطبيقاتها العملية في حياة من يتصفون بها, بقى أن نطرح سؤالا أخيرا..
هل يجب أن يكون المرء طاعنا في السن كي يصبح حكيما؟

  نظريا، يتفق بعض الباحثين مع هذا الرأي.. فيقولون أن الحكمة مستوى يصله الإنسان حين يجتاز تحديات و صعاب مراحل حياته المختلفة بنجاح.. ليخرج منها أكثر نضجا و استقرارا نفسيا.. أي أن الحكمة عندهم مرتبطة بالتقدم في السن فعلا.
 

 

لكن الدراسات الحديثة كشفت شيئا مخالفا.. فالحكمة هي نتاج خبرة المرء في حل مشكلات وجودية معقدة، فكلما زادت خبرات الحياة لدى المرء و ازداد تعرضة لتعقيدات أكثر تصقل حكمته.. ما نقوله هناك هو أن الشاب قد يتعرض لهذه الخبرات بشكل أكبر من شخص كبير السن لم يخض هذا الدرب.
 
 فقد وجدوا أن زيادة خبرة الشخص في مجال من المجالات و ممارسته له باستمرار، تصقل حكمته في الأمور المتعلقة بهذا الموضوع. فالشاب الناجح في مجال إدارة الأفراد، مثلا، قد تكون لديه حكمة متعلقة بهذا المجال، أكثر من شخص كبير السن لم يمارس هذا الأمر قط.
 
كما أن الإنسان حين يكبر قد يأنس لممارسة ما اعتاد عليه و ينفر من التجديد و يفقد روح المغامرة الفكرية.. و هو ما قد يؤثر في الانفتاح على الأفكار الجديدة و من ثم على الحكمة.
 
لا أعني هنا أن التقدم في السن ينفي -أو يؤكد- الحكمة بالضرورة، فالحكمة يمكن تحصيلها بغض النظر عن السن.. فلو كنت شابا، لا تنتظر أن تصبح عجوزا كي تصبح حكيما.
 
 

و تذكر أننا نعيش في هذه الدنيا مرة واحدة فقط..
 فلماذا لا نسعى من الآن لجعلها أفضل حياة ممكنة؟

نقلا عن الاتحاد

تعليقات القراء