Loading

You are here

هل للمصيبة فوائد؟

ماذا سيحدث لك إن تعرضت -لا قدر الله- لصدمة ما؟
 
لا نتحدث عن المشاكل أو الهموم المعتادة التي تحدث في حياتنا من وقت لآخر.. بل عن الصدمات النفسية الحقيقية التي قد يظل تأثيرها طويلا غائرا.
 
الصورة النمطية الشائعة للإنسان الذي يتعرض لمصيبة -كما نرى في الأفلام و الروايات-  هي حدوث اختلال للحياة بشكل ما.. فهناك من يعتزل الناس أو يصاب بالاكتئاب أو أمراض القلب أو تؤرقه الكوابيس..

يسمى  هذا في علم النفس "قلق ما بعد الصدمة" الذي يصيب المرء بعد تعرضه لموقف عصيب يفوق احتماله.. كما يحدث لمن عايشوا كوارث طبيعية، أو أهوال حروب، أو نجوا من حادث أو مرض خبيث، أو فقدوا حبيبا بشكل مفاجئ.. إنها تلك الأحداث التي يمكنها أن تقلب الحياة رأسا على عقب.. لذلك اهتم علماء النفس بهذا الجانب، لدرجة أن منظمة الصحة العالمية أصدرت أول كتيب للإسعافات الأولية النفسية لمساعدة عمال الإغاثة في إسعاف المنكوبين نفسيا! (يمكنك تحميله من هنا)
 
يتفاوت الناس في تحملهم لهذه الأمور.. لكن..
هل القلق هو النتيجة الطبيعية الوحيدة لحدوث الصدمة؟
هل أقصى ما يطمح له الإنسان، هو أن يتعافى منها  ليعود كما كان؟

نمو ما بعد الصدمة!

يقول علماء النفس يالإيجابي،  أن الصدمة لا يتبعها اضطراب للحياة بالضرورة.. بل يمكن للمحنة أن تكون منحة، أو كما يقال: ما لا يكسرك قد يجعلك أكثر قوة. 
فهناك بعض الناس لا تنهار حياتهم عندما يتعرضون لمصيبة.. بل بالعكس.. قد يحدث لهم ارتقاء نفسي و روحي بشكل ما.

يتحدث العلماء هنا عن "نمو ما بعد الصدمة".. اي ذلك الشعور بأن الإنسان قد ازداد حكمة و فهما للحياة بعد تعرضه لهذه الصدمة و تطورت حياته بعد حدوثها.. فكثيرا ما نرى أناسا ازداد تقديرهم للحياة بعد نجاتهم من حادث.. أو من قرروا الالتزام أو تغيير أفكارهم بعد شفائهم من مرض قاتل.. أو هؤلاء الذين وهبوا حياتهم لمساعدة الآخرين بعد أن ذاقوا بأنفسهم  مرارة المعاناة...إلخ

"لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟”
جلال الدين الرومي

الصدمة قد تسبب معاناة بالطبع، لكنها قد تكون دافعا لإعادة الحسابات و الوصول لدرجة أعلى من الارتقاء النفسي، فيخرج المرء من المشكلة أكثر رقيا مما كان قبلها.
 
 
فكيف نفعل هذا؟
كيف نستطيع أن نجعل الصدمة سببا لنمونا و ارتقائنا؟


رغم أن هذا المفهوم حديث نسبيا في علم النفس.. إلا أن هناك دراسات كثيرة تتناوله..
فإليكم بعض ما قيل في هذه المسألة:

 

١- كن اجتماعيا
 
أكثر الناس قابلية للنمو بعد الصدمة، هم أولئك الاجتماعيون الذين يحبون مخالطة الناس.. فما السبب؟
يمدنا الناس بالدعم الاجتماعي الذي نحتاجة لاتزاننا النفسي.. فالتفاف من نحبهم حولنا  بعد حدوث الصدمة، قد يساعدنا في تخطي المحنة و الارتقاء بعدها أيضا.. لأن التفسيرات المختلفة التي قد يقولها لنا الناس
وهم يهونون علينا، قد تجعلنا نرى المشكلة من منظور مختلف، قد لا يكون بديهيا و نحن تحت وطأتها.. قد يعطوننا "معنى" لما يحدث يجعلنا أكثر فهما لأنفسنا و للحياة من حولنا باستخلاص حكمة مما جرى. كما أن وجود علاقات متينة في حياتنا قد يجعلنا ندرك أننا لانزال محبوبين و أن الصدمة لم تدمر كل شيء و هناك ما ينبغي أن نقدره في هذه الحياة، ألا و هو حب الناس لنا.
 
تقول الدراسات أن النساء عموما، يعرفن "نمو مابعد الصدمة" أكثر من الرجال.. أحد تفسيرات الممكنة هذا الأمر هو أن النساء -ببساطة-  يمارسن التواصل الاجتماعي أكثر من الرجال!

 
٢- كن متفائلا
التفاؤل هو توقع أن يكون المستقبل إيجابيا، حتى إن لم يكن هناك دليل على هذا!

تم اعتقال عالم النفس الشهير فيكتور فرانكل، و رأى أصدقاءه يعذبون و يموتون حوله في معتقلات النازية. عاش أياما مريرة في هذا المكان لكنه لاحظ شيئا مهما غير مسار حياته.. لاحظ أن المعتقلين الذين فقدوا الأمل ماتوا كمدا و قهرا، أما من كانوا يتطلعون للغد بتفاؤل -رغم عدم وجود دليل- كانت معنوياتهم مرتفعة. حين نجا من هذه التجربة المريعة قام بتأسيس مذهب نفسي جديد -اسمه العلاج بالمعنى- ينادي بأن تطلعنا للغد مهم كي نتمتع بالصحة النفسية لنقاوم الصدمات.. و أن الأمل هو ما يجعلنا موقنين أن الصدمة ليست نهاية الكون لأن المستقبل سيكون أفضل بشكل ما، فنبدأ في استخلاص العبرة و المعنى، و نعمل على تطوير أنفسنا كي نتأقلم مع هذه الأفكار الجديدة.

لذلك يساعدنا الدين في تخطي المحن.. فهو يعطي معنى متماسكا للحياة و مبررا لنأمل خيرا في الغد.
ببساطة، قم بدورك في الحياة على أكمل وجه، ثم كن متفائلا مؤمنا أن الغد سيكون أفضل و ليكن هذا من ثوابتك، لتتقبل عثرات الحياة و تقلباتها و تدرك أن المصائب -مهما طالت- ليست دائمة.

 


٣- تدرب على مواجهة الحياة!
 
وجد العلماء أن المنفتحين على الحياة الذين يسعون لاكتساب الخبرات الجديدة، يكونون أكثر قابلية من غيرهم للنمو بعد الصدمة. ربما لأن هؤلاء الناس يكسرون روتين حياتهم و يتعرضون لمواقف جديدة أكثر تنوعا مما يتعرض له الشخص العادي، فيتعرضون -بالتالي- لمشاكل أكثر و يضطرون للتعامل معها، فتتكون لديهم خبرات أوسع تساعدهم على تخطي الصعاب و فهم الحياة.
فمن اعتادوا التعرض لمشاكل مختلفة خفيفة الوطأة، يكتسبون مناعة نفسية، و يعرفون كيفية التعامل بشكل أفضل مع الصدمات حين تحدث.

 
فلا تعزل نفسك عن الحياة كي تتجنب مشاكلها.. بل خض غمارها و اسع للتجديد لتكتسب خبرات أكثر تجعلك أقدر على المواجهة.
 فمن لم يعتد التعامل مع الصدمات يكون أكثر عرضة للكسر.

 


 

٤- كن ثريا!
 
حسنا.. أعرف أن هذه النقطة قد تبدو غريبة بعض الشيء..
نتحدث هنا عن المستوي المادي و الاجتماعي SES.. فتقول الدراسات أن من يتمتعون بمستويات عالية منه يكونون أقدر على تخطى الصدمات و النمو بعدها بشكل أفضل.
 فما السبب يا ترى؟
تعددت الإجابات في هذا الشأن.. فقيل أن المستوى المادي يخفف من وطأة الصدمة.. فمثلا، حين يعرف شخص أنه مصاب بمرض خطير، لو كان ثريا مالكا لثمن العلاج قد يكون أقل توترا من شخص لا يستطيع توفير قوت عياله!.. رغم ما يقال دوما عن ذم الماديات، إلا أن الواقع -والدراسات النفسية- تقول أن للعامل المادي علاقة في تخطي محن تعوق سعادتنا!
المستوى المادي/الاجتماعي مفيد في هذا الشأن.. فحاول أن تتمتع بقدر منه لأنه يخفف من وقع صدمات من هذا النوع.

 

5- افرح!
 
على عكس ما يشاع، السعداء -الذين يشعرون بمشاعر إيجابية أكثر- يكونون أكثر قابلية لتخطي المحن!  يحدث هذا لأن المشاعر الإيجابية تلغي التأثير الصحي المدمر للكرب و الغم..  كما تجعلنا ننظر للأمور بعين مختلفة، من منظور أكثر شمولية دون التركيز في التفاصيل، فنرى الصدمة بشكل عام -نحاول أن يكون متسقا مع فهمنا لحياتنا ككل- بدلا من التدقيق في تفاصيلها المؤلمة. 
الإيجابية مفيدة لحياتنا عموما، فالمشاعر الإيجابية يجب أن تكون أكثر من المشاعر السلبية (على الأقل ثلاث مرات) كي نكون سعداء، و نكون أكثر قابلية لأن نتطور بعد حدوث الصدمة.


 
لاحظ معي أننا لا نتكلم عن علاج "قلق ما بعد الصدمة"، بل عن بعض عوامل المساعدة لحدوث "نمو ما بعد الصدمة"..
 فعلم النفس الإيجابي ليس مصمما للعلاج بل للارتقاء بأنفسنا لنعيش حياة أفضل.
 
و إلى أن نلتقي تذكروا دائما..
أننا نعيش في هذه الحياة مرة واحدة فقط..
فلماذا لا تكون أروع حياة ممكنة؟

 

مراجع أكاديمية للمتخصصين عن "نمو ما بعد الصدمة"

Calhoun, L. G., & Tedeschi, R. G. (2006). Handbook of posttraumatic growth: Research & practice. Lawrence Erlbaum Associates Publishers.
Swickert, R., & Hittner, J. (2009). Social support coping mediates the relationship between gender and posttraumatic growth. Journal of Health Psychology, 14(3), 387-393.
Paton, D. (2005). Posttraumatic growth in protective services professionals: Individual, cognitive and organizational influences. Traumatology, 11(4), 335-346.
Linley, P. A., & Joseph, S. (2004). Positive change following trauma and adversity: A review. Journal of traumatic stress, 17(1), 11-21.

 

تعليقات القراء