د.شريف عرفة
يقضي كثير من الناس في عملهم وقتا أطول مما يقضونه مع أسرهم أو في ممارسة هواياتهم، خصوصا هؤلاء المدفوعون بقيم العمل و النجاح المهني و تحقيق الذات. لذلك انصبت الدراسات مؤخرا علي هذه الفترة التي تشكل معظم حياتنا، لفهمها و معرفة كيف يعيش الإنسان فيها بطريقة صحيحة. فظهرت مفاهيم جديدة مثل أماكن العمل الإيجابية والمواطنة المؤسسية، وبدأ علماء النفس الإيجابي يدلون بدلوهم في المسألة بعد أن كانت حكرا على خبراء الإدارة، على اعتبار أنهم معنيون بدراسة عناصر القوة في النفس البشرية وكيفية تنميتها، كالدافعية للإنجاز والإنتاج وتحقيق الأهداف بشكل أفضل، فوجدوا أشياء مثيرة للاهتمام. فبالإضافة للمهارات الإدارية و التنظيمية المعروفة التي يحتاج الإنسان لتنميتها كي ينجح وظيفيا، وجدوا أن هناك عوامل نفسية أيضا، لها علاقة بالنجاح المهني. وإليكم بعض ما توصلت له الدراسات مؤخرا في هذا الموضوع.
تزوج شخصا مثابرا
طرح أحد الباحثين سؤالا عجيبا: هل شخصية شريك حياتك، تؤثر في نجاحك المهني؟ ولمعرفة الإجابة، قام العلماء بدراسة حللوا فيها شخصيات مجموعة كبيرة من الناس، وقارنوها بمستوى دخل شركاء حياتهم.
وجدوا أن هناك صفات معينة في شريك حياتك يمكنها أن تؤثر فعلا في مدى رضاك عن عملك و ارتفاع دخلك و احتمال ترقيتك. و هذه الصفة بلغة علماء نفس الشخصية هي "يقظة الضمير". لا علاقة لها بالأحكام الأخلاقية كما قد يوحى الاسم، بل هي أشبه بما نقول بالعامية أن فلانا "بيشتغل بضمير" أي أنه: يتحمل المسؤولية ، مجتهد ،يستطيع التحكم في ذاته، مستقل، مرتب، طموح و مثابر. و هي صفات اسماها علماء نفس الشخصية ،لسبب ما، يقظة الضمير.
هذه الصفة مهمة لأنها تعني أن شريك حياتك لن يكون معتمدا عليك في كل شيء بل سيشاركك في إدارة المنزل مما سيوفر لك وقتا و بيئة مناسبتين للتركيز في عملك. هو يدرك معنى أن يكون للمرء أهداف -لأن له أهدافا هو الآخر- فيكون أكثر تفهما لانهماكك في العمل، و ربما تتعلم منه تحمل المسؤولية و المثابرة و تطبقها في حياتك المهنية.
اتسام شريك حياتك بهذه الصفة ليس مهما في مجال العمل فقط، فقد كشفت دراسة علمية أن كون شريك حياتك يقظ الضمير، يساعد في أن تكون صحتك -أنت- البدنية أفضل حين تكبران في السن! وفي المقابل، لو كان شريك حياتك عُصابيا (قلق، عصبي، انفعالي، لا يشعر بالأمان، تراوده الوساوس طيلة الوقت) فهذا قد يؤثر بالسلب في نجاحك المهني ومستوى رضاك الوظيفي.
استثمر في رأس مالك النفسي!
"رأس المال النفسي" عند علماء النفس الإيجابي يعني أربعة صفات نفسية هي: التفاؤل و الأمل و الكفاءة الذاتية و المرونة. أي أن يتوقع المرء أن المستقبل سيكون جيدا، و أن له هدف يعرف كيف يحققه، و أنه قادر علي تحقيق ما يريد، و أن يكون قادرا على التعافي بعض الصدمات التي قد تصادفه أثناء كل هذا.
في دراسة حديثة وجد العلماء أن الموظفين حين يتمتعون بهذه الصفات، يزيد ارتباطهم بعملهم و من ثم اجتهادهم فيه و يزيد إنتاجهم و التزامهم. لذلك ينصح العلماء المديرين بتنمية هذه الصفات النفسية عند الموظف، لأنه لن يرتبط بالشركة لو كان يشعر بالتهديد طوال الوقت و لا يتمتع بدرجة عالية من تقدير الذات و لا توجد لديه تطلعات وإن وجدت فهو لا يعرف كيف يحققها. وقتها سيؤدي عمله دون ارتباط عاطفي و قدرة علي الإبداع بشكل حقيقي.
لاحظ معي أن صفة "المرونة النفسية" وحدها لها أهمية كبري في عالم مليء بالتقلبات و بيئة عمل لا تخلو من الضغوط. لذلك وجدوا أن من يتحلى بها، يشعر في عمله بدرجات أعلى من السعادة و الرضا و يزيد التزامه الوظيفي.
حسنا.. لو كان "رأس المال" النفسي مهما لهذه الدرجة، فهل يمكن اكتسابه و تنميته؟ هناك تدريبات أثبتت قدرتها على زيادة هذه الصفات عند المشاركين في التدريب.. منها -مثلا- تدريب يدعوك للتالي:
1- تخيل موقفا عصيبا في العمل سببه خارج عن إرادتك و لا يد لك فيه. حدد هذا الموقف قبل الاستمرار للنقطة التالية.
2- الآن فكر في مجموعة من التصرفات التي يمكنك القيام بها للتعامل مع الموقف. كيف ستتصرف؟ كن خلاقا مبدعا و اكتب قائمة طويلة من التصرفات التي في يدك القيام بها للتعامل مع الموقف.
الغرض من هذا التدريب البسيط هو تنمية مهارة "المرونة النفسية" أي القدرة على التعامل الإيجابي مع الصدمات أو التعافي بعدها. يتم هذا عن طريق تدريب الشخص على مواجهة مثل هذه المواقف بتوسيع خياراته، ليكون مهيأ لمواجهة هذه المواقف الصعبة حين تحدث في الواقع.
كن ساخرا!
[[{"fid":"4920","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]
نفترض دائما أن بيئة العمل يجب أن تكون جادة صارمة فيها أناس متجهمون جالسون على مكاتبهم في تركيز و بالكاد يحدث أحدهم الآخر.. إلا أن بيئة العمل الصحية لا يجب أن تكون على هذا النحو طيلة الوقت.
حكي لي أخي عن مقابلة شخصية أجريت معه في شركة جوجل في مقرها الرئيسي بماونتن فيو في كاليفورنيا. و يقول ضاحكا أن الجو العام للمكان يوحي باللعب و الطفولة أكثر مما يوجي بالجدية و الطابع الرسمي.. فيمكنك أن تشاهد موظفا يعمل مستلقيا على أريكة في استرخاء و آخر يعزف على البيانو أو يستخدم ملعب بولينج أو حمام سباحة أو ماكينة الجري أو يستحم.. لاحظ أنهم يسمحون بدخول الحيوانات الأليفة لإضفاء جو من الألفة و العبثية للمكان. و هو ما يمكنك مشاهدته في هذا الفيديو.
هذا لأمر ليس اعتباطيا بالتأكيد.. فهناك دراسات عديدة تثبت علاقة واضحة بين السخرية، و القدرة على الإبداع و الابتكار و كذلك الارتباط بالعمل و ما يتبعه من زيادة الإنتاجية والتفاني. ففي تجربة قاموا بجعل المشاركين يعملون بعد تعرضهم لمؤثرات مختلفة لمعرفة تأثيرها على أدائهم، فاكتشفوا أن الشخص الذي يعمل في جو مفعم بالدعابة و السخرية، يكون أكثر قدرة على التفكير الإبداعي و الابتكاري.. في حين أن الشخص الذي يعمل فقط لاتقاء غضب شخص ما، قد يبذل مجهودا أكبر لكنه لن يستطيع أن يكون مبدعا. و في دراسة أجريت علي عاملين في مجال الصحافة، وجدوا أن السخرية و حس الدعابة لهما تأثير كبير في تقليل تأثير الاحتراق النفسي، أي الإنهاك الذي يصيب الإنسان من كثرة العمل،مما يوثر على أداء العاملين و إنتاجيتهم.
توقف عن العمل!
يحتاج الإنسان الناجح وظيفيا أن يكون سعيدا في حياته. هذا ما خلصت إليه سونيا لوبوميرسكي في دراسة قامت بها لمعرفة الأسباب التي تجعل أداء العاملين في المؤسسات أفضل. قد يعتقد البعض أن قضاء معظم الوقت في العمل هو ضمان النجاح المهني، فهو خاطئ. لأن الانهماك في العمل -فقط- سيؤدي إلى المدى البعيد لتآكل الحياة الشخصية ومن ثم انعدام المعنى في الحياة. و كما قال ستيفن كوفي، أن الإنسان و هو على فراش الموت، سيتذكر اللحظات الجميلة التي قضاها -مثلا- مع أطفاله و أحبابه، و لم يتذكر اجتماع عمل جيد أو صفقة قام بها!
ليس هذا الكلام وجدانيا عاطفيا فقط، ففي دراسة علمية وجدوا أن كلما زاد الوقت الذي يقضيه المرء مع أسرته بعيدا عن العمل، كلما كانت جودة حياته أفضل، و في دراسة ضخمة اجريت على مدراء من 33 دولة، وجدوا أن النجاح المهني نفسه مرتبط بتحقيق التوازن بين العمل و الحياة الشخصية.
أقول هذا الكلام و أتذكر مديرا عبقريا عملت معه لسنوات طويلة.. و كان يقضي معظم وقته في العمل حتي ظننت أنه لا ينام. و كان متفوقا فعلا في عمله، إلا أن وفاته المبكرة من إثر الضغوط النفسية لا تزال آثارها غائرة في نفسي حتى اليوم. رحمه الله. التوازن مطلوب إذا. واهتمامك بقضاء وقت أطول في المنزل مع أسرتك، يساهم في زيادة إقبالك على العمل و تفانيك فيه، لأنه يجدد نشاطك و يجنبك الإرهاق و الاستنزاف الذهني.
وفي النهاية ، أود أن أوضح أن النقاط التي ذكرتها هنا ليست حصرا بل على سبيل المثال، فالدراسات التي أجريت في هذا الموضوع أكثر من أن تحصي في مقال. لكن يكفي أننا تعرفنا معا على لمحة مختصرة، مما تقدمه أدوات التفكير العلمي الحديثة، لتحقيق سعادتنا و تحسين جودة حياتنا.