Loading

You are here

أنت لست وظيفتك!

 

هناك مقولة شهيرة لسيجموند فرويد مفادها أن الحب و العمل هما حجر الزاوية لإنسانيتنا، إلا أن تحقيق هذه المعادلة لم يعد سهلا في أيامنا هذه. إذ يعاني كثير من الناس من مشكلة عدم التوازن بين العمل و الحياة الاجتماعية، ليصبح العمل هو القاعدة، و ما سواه استثناء يمكن ممارسته في وقت الفراغ.

الانهماك في العمل وحده، قد يسبب الإنهاك النفسي Burnout و قلة الرضا عن الحياة علي المدى الطويل، غير العزلة و فقر العلاقات الاجتماعية خارج نطاق العمل. فما قيمة حصد المال و النجاح في العمل، إن كنا وحيدين لا يشاركنا حياتنا أحد؟
يقول الباحثون ان العمل يساعدنا على تحقيق السعادة فعلا، لكن فقط لو كان متوازنا مع أدوار اجتماعية أخرى و كانت لنا حياة حقيقية خارجه.

فما السر الحقيقي وراء عدم قدرتنا علي الموازنة بين الحياة و العمل؟

يتعلق الأمر أحيانا بالمشاكل المادية أو العجز عن إدارة الوقت.. لكن دعونا نتناول الموضوع من زاوية مختلفة، و هي الحلول المقترحة من منظور علم النفس.

من أنت؟

 كل إنسان لديه عدة شخصيات و يلعب عددا من الأدوار الاجتماعية المختلفة.. فانت -مثلا- ابن و صديق و حبيب و موظف و جار و زبون، و قد تكون أبا و مديرا و طالبا و رياضيا في نفس الوقت.. و كل دور يتطلب طريقة تفكير و تعامل مختلفة عن الآخر .. فطريقة كلام المذيع و هو يقرأ نشرة الأخبار تختلف عن طريقة كلامه مع زوجته.. و لا يعامل أطفاله كما يعامل أصدقائه، و لا يعامل الغرباء كما يعامل زملاء العمل...و هكذا.

لكن ما علاقة هذا بكلامنا؟

يقول العلماء أن البعض لا يرون أنفسهم إلا في دور رئيسي واحد، فيقضون معظم وقتهم و يبذلون معظم جهدهم في سبيل تحقيق النجاح فيه.. فتقتصر هويتهم و نظرتهم لأنفسهم على هذا الدور. فهناك من يرى نفسه "موظفا ناجحا" و يناضل في لعب هذا الدور أكثر مما ينبغي، لدرجة تذبل عندها باقي شخصياته الأخرى!

[[{"fid":"5085","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"","field_file_image_title_text[und][0][value]":""},"type":"media","attributes":{"class":"media-element file-default"}}]]

حين يرى الشخص نفسه في دور اجتماعي دون الآخر، قد يحدث تعارض بينه و بين الأدوار الأخري التي تصبح متناقضة أو أقل أهمية.. فقد يرى الشخص انه "مدير كبير" أكثر مما يرى نفسه "زوجا محبا" كي يسعد بصحبة زوجته" أو "أبا متميزا" كي يستمتع باللعب مع أطفاله، أو "ابنا بارا" كي يتواصل يواظب على زيارة والديه!
هذا الشخص قد يشعر بعدم الانسجام لو قضى وقتا طويلا في المنزل، لأن هذا يجعله يلعب دورا لم يعتده و لا يشكل هويته.

فكيف نتجاوز هذا الأمر؟

فكر معي عزيزي القارئ: لو أخذنا منك عملك أو دراستك الآن.. فمن تكون، و كيف تقضي وقتك؟
كيف ترى أدوارك الحياتية خارج سياق العمل/الدراسة، و من هم الأشخاص المهمون بالنسبة لك؟

" أنت لست وظيفتك..."
شاك بولانيك

  ينصح العلماء هنا بعدة أمور، يمكن تلخيصها كالتالي:

١- عدم العزلة و الحفاظ على حياة اجتماعية خارج بيئة العمل:

يقول ستيفن كوفي، أن الإنسان حين يكون على فراش الموت مسترجعا الذكريات الجميلة في مرت بحياته، لن يتذكر اجتماعا ناجحا أو صفقة جيدة او ترقية حصل عليها في العمل.. لكنه سيتذكر لحظة جميلة قضاها مع حبيبته أو في ملاعبة أطفاله أو مع أصدقاء عمره.. فكم نقضي من الوقت في صناعة هذه الذكريات؟
لا تجعل حياتك محصورة بين جدران الشركة.. قم بأشياء مختلفة و زر أماكن جديدة وغير عاداتك الروتينية لتخرج من دائرة التكرار.

٢- بذل جهد للالتزام بلعب ادوار اجتماعية مختلفة:

نتكلم هنا عن الالتزام الشخصي بإعطاء كل دور اجتماعي حقه من الوقت و الجهد و السعي لتكون جيدا فيه.. هل تسعى لان تكون حفيدا جيدا؟ ابنا بارا؟ صديقا وفيا؟ حبيبا مثاليا؟ جارا لطيفا؟ هل نسيت انك كل هذا؟  لو لم تكن هذه الأمور في بؤرة اهتماماتك فينبغي ان تكون، لتصبح الحياة اكثر ثراء.
ليس الأمر تلقائيا لمن أدمن العمل، بل يحتاج لبذل مجهود في البداية و التزام بالممارسة حتى تعتاده.

٣- تقليل الصراع بين الأدوار:

فكر في الأدوار الاجتماعية الموجودة في حياتك و انظر لها كجوانب متنوعة تثري التجربة الإنسانية، لا كأدوار متناقضة تعيقك عن هدفك.. استمتع بممارسة كل دور منها و استشعر مدى أهميته و ما يشبعه عندك من احتياجات نفسية ضرورية.
 احضر ورقة و قلما (أو افتح ملف وورد) و اكتب هذه الأدوار.. و اكتب كيف تتخيل نفسك و أنت تمارس كل دور من هذه الأدوار بأفضل طريقة ممكنة.

٤- إجراءات إدارية:

  لو كنت صاحب عمل، ينصح الباحثون بوضع سياسات تساعد الموظف على خلق توازن بين الحياة و العمل لزيادة الرضا الوظيفي و الإنتاجية. منها:
- إجراءات تقليدية: مثل تشجيع الموظفين على أخذ إجازاتهم كاملة.. تسهيل الإجازات المرضية و إجازات الوضع ...إلخ.
- إجراءات غير تقليدية:  مثل ساعات العمل المرنة.. إعادة تصميم الوظيفة.. توفير خدمات لرعاية الأطفال و كبار السن.. برامج تدريبية لتقليل الضغوط.. السماح بالعمل من المنزل لو لم يكن هناك داع للوجود الشخصي (فالمهم هو إنجاز العمل و ليس حبس الموظف!)...إلخ

في فيلم The Intern الذي قام ببطولته روبرت دي نيرو، تم تناول مشكلة التوازن بين الحياة و العمل.. ليخلص الفيلم لنتيجة مباشرة مفادها أن عليك الالتزام بوظيفتك حتى الرمق الأخير، حتى إن لم تكن أسرتك في أولوياتك.. و على أسرتك ان ترضى بهذا الأمر في سبيل سعادتك الشخصية..
لكن يبدو أن لعلماء النفس و الإدارة رأي آخر!

د.شريف عرفة

 

 

مراجع علمية:

  • Amdam, Gro V. "Social context, stress, and plasticity of aging." Aging cell 10, no. 1 (2011): 18-27.
  • Bloom, N., Kretschmer, T., & Van Reenan, J. (2009). Work-life balance, management practices and productivity. In International differences in the business practices and productivity of firms (pp. 15-54). University of Chicago Press.
  • Greenhaus, J. H., & Beutell, N. J. (1985). Sources of conflict between work and family roles. Academy of management review, 10(1), 76-88.
  • Greenhaus, J. H., Collins, K. M., & Shaw, J. D. (2003). The relation between work–family balance and quality of life. Journal of Vocational Behavior63(3), 510-531
  • Guest, David E. "Perspectives on the study of work-life balance." Social Science Information 41, no. 2 (2002): 255-279.
  • Kawachi, I., & Berkman, L. F. (2001). Social ties and mental health. Journal of Urban health, 78(3), 458-467.
  • Sirgy, M. J., & Lee, D. J.  (2015). Work-Life Balance: A Quality-of-Life Model. Applied Research in Quality of Life, 1-24.
تعليقات القراء