بقلم: د.شريف عرفة
كان شاليمار يعتبر نفسه فيلسوفا. اعتاد الجلوس كل يوم على صخرته المعتادة على قمة الجبل متأملا أحوال الحياة، إلى أن يأتي تلاميذه و مريدوه- و ربما بعض السياح كذلك- كي يستمعوا إليه و يتعلموا منه.
استيقظ مبكرا..أعد لنفسه كوب الشاي بالنعناع, شرب ثم جلس على الصخرة و راح يمارس التأمل اليومي.
و بعد ساعات بدأ الناس يتوافدون.
جاء التلاميذ و المريدون.. كما جاء الصحفيون كي يجروا معه تحقيقاتهم ويكتبوا- في دقة شديدة- كل ما يقول.
قال شاليمار :
- "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد..
من جد وجد و من زرع حصد..!"
راح الجميع يكتبون كل ما يقول في شغف.. فتابع:
- "هذه العبارات , حكم و أمثال سمعناها جميعا من قبل , لكننا لا نعمل بها أبدا. من العجيب أننا نعرف الطريق و لا نسلكه.. نمتلك مفتاح الباب و لا نفتحه.. نملك كل الإجابات في داخلنا, و رغم ذلك نسأل الناس النصيحة.. ألم يحن الوقت كي ننصت لأنفسنا قليلا؟ أيقظ ضميرك الأخلاقي كي يكون حكمك على الأشياء ذاتيا..
اتبع الصواب الذي يستريح له قلبك.. فمن لا يفعل هذا سوف يعاني كثيرا في حياته.."
ساد الصمت.. ثم راح الجميع يكتبون..
رأى شاليمار شابا يكتب و هو يرتجف من البرد.. كثير من الناس يرتدون ملابسهم العادية و هم آتون إليه, ظانين أن الطقس على قمة الجبل كمثيله في الأسفل.
أمسك شاليمار بكوفية بجواره و ناولها للشاب قائلا :
- "ضع هذه الكوفية حول عنقك يا فتى و لا تخلعها .."
و أضاف ناظرا للباقين :
- "سأسألكم سؤالا.. لماذا نساعد الآخرين ؟"
و حين لم يتلق إجابة, تابع :
- "إسعاد من حولك يزيد من جذوة السعادة في داخلك أنت.. إنه يمثل نقطة التلاقي بين سعادتك الخاصة و ازدهار مجتمعك الذي سيساعد في إسعادك أنت بعد ذلك.. لذلك يوصف فعل الخير في علم الأخلاق (القاعدة الذهبية) و في البوذية يسمونه (الكارما) ..و هو روح الأديان السماوية الثلاثة.. إنه جوهر كوننا بشرا."
ثم نظر للفتي الذي لف الكوفية حول رقبته ممتنا, و قال له:
- "ساعِد الآخرين يا فتى.. لأنك بهذا تساعد نفسك دون أن تدري."
و شرب من كوب الشاي بالنعناع - الذي اصبح آيس تي من البرد - و قال :
- "يكفي هذا اليوم !"
* * * * * *
انتهى شاليمار من الدرس و راح يتمشى قليلا..
لم يكن يريد العودة إلى المنزل بطبيعة الحال, فزوجته كانت من طراز زوجة سقراط .. لذلك قرر أن يتجول في الجبل قليلا كي تصفى روحه من ضوضاء الناس.
راح يمشي و هو يتأمل الطبيعة.. إلى أن رأي ذاك الكهف.
لم يكن قد رآه من قبل.. لذلك قرر استكشافه..
دخل الكهف.. تثاقل جفناه..
جلس على الأرض ساندا ظهره على الجدار ثم ....
خ خ خ خ خ خ خ !
* * * * * *
كان شاليمار يعرف قصة أهل الكهف جيدا.. لذلك لم يضع وقته – حين استيقظ - في التعجب من طول لحيته و خيوط العنكبوت التي كانت تحيط به.. عرف أنه قد مر وقت طويل جدا عليه في هذا الكهف..
و على عكس المعتاد مع أبطال هذه القصص.. كان شاليمار سعيدا..
خرج من الكهف في فضول كي يعرف كيف اصبح العالم بعد ألف عام.
* * * * * *
كان منبهرا..
قمة الجبل لم تعد مقفرة.. بل هي مزدحمة كمزار سياحي.
كانت هناك أعمدة شاهقة و مبان مهيبة الشكل مغطاة بالزخارف.. كانت أعلى من أعلى مبنى رآه في حياته.. و هناك تماثيل لشخص ما تملأ المكان في إلحاح.. من هو ؟.. ما الذي يحدث ؟
تردد قليلا, ثم دخل أحد المبان ليرى ما هنالك..
بدى المكان كمعبد..ساحة كبيرة يقف فيها الناس حول منصة عالية من الذهب الخالص.. عليها رجل أصلع الرأس يرتدي كوفية خضواء من الصوف (يبدو أنه الكاهن ).. و قال لهم:
-"باسم شاليمار الأعظم أحييكم !"
شاليمار الأعظم ؟ - هكذا قال شاليمار لنفسه متعجبا – إنهم تلاميذه بعد ألف عام!
-"أبنائي.. درس اليوم هو أصول و قواعد الحكمة.. فافتحوا كتبكم."
وجد شاليمار كتابا فاخرا عن أحد الأرفف بجواره.. ففتحه في فضول حقيقي ليتابع ما يقرؤه الكاهن:
- "كان شاليمار يجلس على صخرته المقدسة حين جئنا..و قال لي : من جد وجد و من زرع حصد."
تابع الكاهن شارحا النص:
-"هذه هي القاعدة الأولى .. من جد وجد و من زرع حصد.. أي يجب على المزارع الذي قام بالزراعة أن يقوم هو بنفسه بالحصاد، لا أن يستأجر عاملا للحصاد.. من لا يلتزم بهذا , فهو هرطيق..."
لم يفهم شاليمار ما يحدث.. فتابع الكاهن القراءة:
- "... و بعد ذلك أعطاني شاليمار كوفية بنية من الصوف وقال : لف هذه الكوفية حول عنقك يا فتى و لا تخلعها .."
تابع الكاهن مفسرا :
- "لقد أمر شاليمار كبيرنا الأعظم, بارتداء الكوفية المقدسة.. و قال شاليمار بالحرف الواحد (لا تخلعها).. أي أن هذا أمر واجب التنفيذ.. في الصيف أو في الشتاء.. فالنفي لم يأت محدودا بوقت بل مطلقا كما يقول العلماء.. كما يجب أن تكون الكوفية من الصوف و أن تكون بنية اللون.. بعض الناس يضعون كوفيات بلون مختلف.. هؤلاء فجرة آثمون .. هل تعلمون ما هي عقوبتهم ؟"
نظر إلى الكتاب و تابع القراءة:
"....من لا يفعل هذا سوف يعاني كثيرا في حياته."
و قال مفسرا في ورع:
"من لا يلتزم بهذه الأوامر يجب أن (يعاني في حياته).. أي أن العذاب يجب أن يكون في حياته لا بعد مماته.. و قال كهان و حكماء القرن الخامس في تفسيراتهم أن قمة المعاناة هي الحرق حيا.. فاحرقوا الكفار أحياء كما قال شاليمار الأعظم لو كنتم تحبونه و تحبون طاعته."
تلفت شاليمار حوله مستنكرا ، فوجد كل من حوله يرتدون كوفيات صوفية بنية اللون.
هنا التفت له أحدهم و لاحظ أنه لا يرتدي كوفية أصلا.. فصرخ :
"هذا الرجل لا يرتدي الكوفية المقدسة..!!"
ساد الهرج و المرج و التف حوله الناس.. صاح الكاهن بصوت هادر: "كافر..كافر"..
أمسكوا به و قيدوه بالحبال.. و سحبوه إلى عامود حجري في ركن المعبد , بينما الكاهن يصرخ:
"هؤلاء الهراطقة الذين ضيعوا الدين.. فلتحل عليكم اللعنة و لتحترقوا في نيران الجحيم...".
عقدت المفاجأة لسان شاليمار و عجز عن الكلام.
رأى بطرف عينه أناسا يتمسحون في الصخرة التي كانت يجلس عليها من قرون.. و يبكون و يمارسون صلاة لم ير مثلها من قبل..
قيدوه في ركن المعبد مع أناس آخرين -يبدو أنهم كفرة كذلك- لأن أحدهم كان يصيح :
- "لن أرتدي الكوفية الصوفية في الصيف.. هذا غباء.."
و صرخ الآخر:
- "لا أحب الشاي بالنعناع يا ناس !"
و اجتمع الناس ليشهدوا حرق الهراطقة, أمسك الكاهن المشعل.. و نظر إلى عيني شاليمار في كراهية..
ثم أشعل النار.